الرسول
صلى الله عليه وسلم
في
مكة أطهر بقاع الأرض أضاء الكون لـميلاد
النبي خاتم النبيين، حيث
وُلد يتيمًا في عام الفيل، وماتت أمه في سنٍّ مبكرة؛ فربَّاه جدُّه عبد المطلب ثم
عمُّه أبو طالب، وكان يرعى الغنم ويعمل في التجارة خلال سنوات شبابه، حتى تزوج من
خديجة بنت خويلد
في سن الخامس والعشرين، وأنجب منها كلَّ أولاده باستثناء إبراهيم.
وفي سنِّ الأربعين نزل عليه الوحي بالرسالة، فدعا إلى عبادة الله وحده ونبذ الشرك،
وكانت دعوته سرِّيَّة لثلاث سنوات، تبعهنَّ عشرٌ أُخَر يُجاهر بها في كل مكان، ثم
كانت الهجرة إلى
المدينة المنوَّرة بعد شدة
بأسٍ من رجال قريش وتعذيبٍ للمسلمين، فأسَّس بها دولة الإسلام، وعاش بها عشر سنوات،
تخلَّلها كثيرٌ من مواجهات الكفار والمسلمين التي عُرِفَت بـالغزوات،
وكانت حياته نواة الحضارة
الإسلامية، التي توسعت في بقعةٍ جغرافيَّةٍ كبيرة على يد
الخلفاء الراشدين من بعده.
ملخص المقال
عند مرض أبي طالب الأخير وقرب وفاته زاره زعماء قريش وقدَّموا تنازلًا كبيرًا وعرضًا مغريًا لرسول الله عن طريق عمه أبي طالب، وعلى الرغم من ذلك كان لرسول
أهم مقتطفات المقال
إذًا الداعية الذي ينظر إلى الأفق البعيد لا يجب أن يُقَدِّم تنازلًا في عقيدته أو في دينه أو في شرعه لن يستطيع بعد ذلك أن يستعيده؛ بل عليه أن يصبر ويثبت وإن كان الظاهر أمام العين أنَّ الخسائر كبيرة -وهذا فارقٌ ضخمٌ بين ساسة الدنيا وساسة الآخرة- فإنَّ ساسة الدنيا يسيل لعابهم لأيِّ مكسبٍ أو نصرٍ أو خطوةٍ أماميَّة، وساسة الآخرة يُقَدِّرون الأمور بميزان السماء لا بميزان الأرض، وهذا يُعطي لهم ثباتًا على المبدأ، ووضوحًا في الرؤية.
مع بدايات العام العاشر من النبوَّة (عام الحزن)، ازداد مرض الشيخ الكبير أبي طالب، وكان قد جاوز الثمانين من عمره، وبدأ الناس في مكة يقولون إنَّ هذا هو مرض الموت.
واجتمع زعماء الكفر من جديد وتشاوروا؛ فموت أبي طالب وغيابه عن ساحة الأحداث قد يُغَيِّر من المعادلة سلبًا أو إيجابًا، ولا بُدَّ من دراسة الموقف..
فكَّرت قريش في الخطوة القادمة، وعلى عكس ما يتصوَّر الناس بَدَا من تصرُّفهم أنَّهم يزدادون ضعفًا على ضعف! فليست الحقيقة أنَّ المستضعفين الذين حُصِروا في الشِّعْب ثلاث سنوات قد ذهبت قوَّتهم، أو قلَّت حيلتهم؛ إنَّما الحقيقة أنَّ قريشًا بدت عاجزةً أمام صلابة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقومه، ولئن كان من الممكن تحييد جانب المشركين من بني هاشم بعد وفاة أبي طالب المرتقبة، فإنَّه صار أكيدًا عندهم أنَّهم لا يقدرون على كسر عزيمة المؤمنين، أو حتى إضعافها؛ ومن ثَمَّ جاء قرارهم عجيبًا كما رأينا في الروايات المختلفة للقصة؛ فقد قرَّروا بالإجماع أن يُقَدِّمُوا تنازلًا جديدًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا غير التنازلات السابقة التي عرضها عتبة من قبلُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم! إنَّهم الأضعف لا شكَّ، وها هم يسعون في محاولةٍ جادَّة للالتقاء في منتصف الطريق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ماذا فعلت قريش؟ وأيُّ تنازُلٍ ستُقَدِّم؟!
لقد كوَّن زعماء قريش وفدًا مهيبًا مكوَّنًا من معظم رجال الحكومة في مكة، فكان فيهم أبو جهل بن هشام، وأبو سفيان بن حرب، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأمية بن خلف.. وغيرهم، فدخلوا جميعًا على أبي طالب وهو على فراشه فقالوا: يَا أَبَا طَالِبٍ، إنَّكَ مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ، وَقَدْ حَضَرَكَ مَا تَرَى، وَتَخَوَّفْنَا عَلَيْكَ، وَقَدْ عَلِمْتَ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَ ابْنِ أَخِيكَ، فَادْعُهُ، فَخُذْ لَهُ مِنَّا، وَخُذْ لَنَا مِنْهُ، لِيَكُفَّ عَنَّا، وَنَكُفَّ عَنْهُ، وَلِيَدَعَنَا وَدِينَنَا، وَنَدَعَهُ وَدِينَهُ.
يا له -في أعراف السياسيين- من عرض مغرٍ من زعماء مكة!
بهذا العرض سيُصبح لرسول الله صلى الله عليه وسلم جماعته الإسلاميَّة في مكة، ويُصبح لأهل الكفر جماعتهم الكافرة هناك، ويعيش هؤلاء وهؤلاء دون أن يتعرَّض أحدٌ لدين غيره؛ أي أنَّ أهل مكة سيرفعون الأذى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وسيُتيحون لهم حريَّة العبادة؛ لكن في مقابل أن لا يتكلَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم في معتقدات أهل مكة، وأن لا يُسَفِّه آلهة قريش، وأن لا يُنكر عندهم منكرًا ولا يأمر عندهم بمعروف، وأن لا ينصح أحدًا بتطبيق أحكام الله على عباد الله، وأن لا يتكلَّم في السياسة، ولا في الحكم ولا في المعاملات ولا في غيرها، فقط يُصَلُّون كما يُريدون أن يُصَلُّوا، ويعتقدون فيما يُريدون أن يعتقدوا فيه، ويفصلون بعد ذلك دينهم عن دنيا مكة.
في الوضع الضعيف الذي كانت فيه الدعوة الإسلاميَّة في ذلك الوقت، وقد خرجوا منذ شهور قليلة جدًّا -أقل من ستة أشهر- من الحصار الاقتصادي المريع الذي مرَّ بهم، وفي ضوء السيطرة العسكريَّة لزعماء قريش على مكة والتفوُّق العددي لهم، في ضوء هذه الاعتبارات فإنَّ هذا العرض يُعتبر في نظر الكثيرين فرصة، حتى لو كانت مرحليَّة.
لكن في المقابل لو أقرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بتنازلٍ ما فإنَّه سيُصبح مُلْزَمًا به، فإن استمرَّ على إقراره خسرت الدعوة بعد ذلك الكثير، وإن خالف إقراره كان خائنًا لعهده منكرًا لمواثيقه، وهذا ليس من شيم الصالحين.
إذًا الداعية الذي ينظر إلى الأفق البعيد لا يجب أن يُقَدِّم تنازلًا في عقيدته أو في دينه أو في شرعه لن يستطيع بعد ذلك أن يستعيده؛ بل عليه أن يصبر ويثبت وإن كان الظاهر أمام العين أنَّ الخسائر كبيرة -وهذا فارقٌ ضخمٌ بين ساسة الدنيا وساسة الآخرة- فإنَّ ساسة الدنيا يسيل لعابهم لأيِّ مكسبٍ أو نصرٍ أو خطوةٍ أماميَّة، وساسة الآخرة يُقَدِّرون الأمور بميزان السماء لا بميزان الأرض، وهذا يُعطي لهم ثباتًا على المبدأ، ووضوحًا في الرؤية.
وقد يقول قائل: وما الضير في أن ندعو الناس إلى ديننا دون أن نذكر آلهة المشركين بسوء؟ والجواب هو أنَّ الدعوة بهذه الطريقة أمرٌ نظريٌّ لا وجود له في الحقيقة! فصُلْبُ عقيدتنا التوحيد، وأهمُّ كلمةٍ في دين الإسلام كله هي: «لا إله إلا الله»، وعندما تُخاطب الناس في أمر الإسلام وتذكر لهم أنَّه لا إله إلا الله فإنَّهم سيسألون سؤالًا تلقائيًّا عن الآلهة الأخرى التي ينبغي تركها لكي يتمَّ «التوحيد» الذي نُريده، وستكون الإجابة المباشرة هي أنَّ هذه ليست في الحقيقة آلهة؛ إنَّما هي أحجارٌ لا تنفع ولا تضرُّ، وأنَّ الناس اخترعوا هذه الآلهة وصنعوها بأيديهم، ثُمَّ قدَّموا لها العبادة والقرابين، فلا يُمكن الإيمان بالله إلَّا إذا فَرَغَ القلب من هذه الأوثان والطواغيت. هذا هو التوحيد؛ فكيف سنذكر عقيدتنا دون أن نذكر حقيقة الأصنام للناس؟ إنَّ الله عز وجل يقول في كتابه: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 256]، فنحن لا نُكْرِه أحدًا على اعتناق الإسلام؛ ولكن نُبَيِّنُ له الرشد من الغيِّ، ثُمَّ هو يختار العقيدة التي يُريد، فإن اختار الإسلام فلا بُدَّ أن يكفر بالطاغوت قبل أن يُؤمن بالله، والطاغوت هو كلُّ ما يُعْبَد من دون الله؛ لأنَّه لا معنى للإيمان بالله دون كفرٍ بما سواه، فمسألة عدم التعرُّض بالسوء لأصنام قريش مسألةٌ نظريَّةٌ لا يُمكن تطبيقها بحال، ثُمَّ إنَّ الله عزَّ وجل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بتلاوة القرآن؛ قال تعالى: ﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾ [النمل: 91، 92]، فكيف سيقرأ المسلمون القرآن، وكيف سَيُبَلِّغُونه للعالمين دون أن يذكروا حقيقة الآلهة المزعومة التي يعبدها الناس؟ فالقرآن يذكر الأصنام وحقيقتها كثيرًا؛ فيقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [العنكبوت: 17]. ففي الوقت الذي يذكر الله عزَّ وجلَّ أنَّه هو سبحانه الرزَّاق الذي يرزق الخلق جميعًا يذكر أنَّ هذه الأوثان إفكٌ وكذب، وأنَّها لا تملك رزقًا ولا نفعًا للناس، وهذا ما يعدُّه أهل الكفر سبابًا لآلهتهم، واتِّهامًا لعقولهم بالسفه، فكيف سنقرأ القرآن دون ذكر ذلك، وما المهرب منه؟ ويقول تعالى: ﴿قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ [الرعد: 16]. فكيف سنقرأ الآية السابقة دون ذكر آلهة المشركين وحقيقتها؟ وقال تعالى: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا﴾ [الفرقان: 3]. ومثال هذا في القرآن كثيرٌ للغاية، ومن هنا فاستجابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لطلب الكافرين بأنَّهم يَدَعُونَه ودينَه على أن يَدَعَهم ودينهم تعني الكفَّ عن قراءة القرآن، وتعني كذلك الكفَّ عن شرح معنى التوحيد والإسلام للناس، وهذا ما لا يُمكن للرسول صلى الله عليه وسلم أن يفعله؛ لأن الله عز وجل أمره بالبلاغ؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ [المائدة: 67]. وأَمَرَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم نفسُه أتباعَه أن يُبَلِّغوا العالم أمر هذه العقيدة، فقال: «أَلَا لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الغَائِبَ»[1]. وهذه هي الوظيفة الكبرى للأُمَّة الإسلامية، التي من أجلها جُعلت خير الأمم؛ إذ إنها هي التي تحمل الخير للناس، فتأمرهم بالمعروف، وأعظم المعروف توحيد الله، وتنهاهم عن المنكر، وأعظم المنكر الإشراك بالله؛ قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ [آل عمران: 110].
لو وضعنا كلَّ هذه الخلفيَّات في أذهاننا فهمنا ردَّ فعل الرسول صلى الله عليه وسلم تِجاه العرض الجديد من زعماء مكة.
أمَّا أبو طالب فلم يكن مستوعِبًا لهذه الأبعاد كلِّها، وكل ما كان يُريده هو أن يطمئنَّ على ابن أخيه محمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت، وهو لا يأمن زعماء قريش، فأراد أن يُوَفِّق بين الطرفين بقدر ما يستطيع، فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بالذي قالوا، ومِن طريقة عَرْضِه نشعر أنَّه كان موافقًا ومتفهِّمًا لطلب قريش، وكان يرى أنَّ عدم تعرُّض كلِّ فريقٍ للآخر هو منتهى المراد، وأنَّ ذلك سيضمن الأمان والراحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرعًا، فوجد القوم عند عمِّه، واجتهد أبو جهل في حرمان رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلِّ وسائل التأثير على عمِّه، فحرمه من الجلوس إلى جواره! فقد كان هناك مكانٌ إلى جوار أبي طالب يُمكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجلس فيه فقفز إليه أبو جهل بسرعة، واضطرَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يجلس بعيدًا عن عمِّه!
إلى هذه الدرجة تشتعل نار الغيرة والحسد والغلِّ في قلوب أعداء الدين!
سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم عَرْض قريشٍ من عمِّه، فلم يتردَّد في الإجابة، ولم تظهر عليه ملامح الحيرة أو الاضطراب؛ إنَّ الرؤية واضحةٌ عنده تمامًا، وطريقه مستقيمٌ لا عِوَج فيه؛ ومع ذلك فقد أراد أن يُفْهِم المشركين جَمَالَ التوحيد بلغتهم التي يعرفونها، وهي لغة السُّلْطة والتمكين والدنيا! إنَّ المشركين يُريدون الإشراك ويرفضون التوحيد لأجل حرصهم على دنياهم وسلطتهم، فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ طموحاتهم البسيطة في حُكْم مكة ستتطوَّر في ظلِّ التوحيد إلى حُكْم الدنيا كلها! وسيرضخ لهم القريب والبعيد، وسيخضع لحكمهم العرب والعجم! إنَّها نقلةٌ نوعيَّةٌ في طريقة التفكير، وفي منهج الحياة.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم مخاطبًا عمَّه أمام زعماء قريش: «يَا عَمِّ، إِنِّي أُرِيدُهُمْ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يَقُولُونَهَا، تَدِينُ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ، وَتُؤَدِّي إِلَيْهِمْ بِهَا الْعَجَمُ الْجِزْيَةَ»!
كانت الكلمة صادمة للجميع؛ لأبي طالب وزعماء قريش!
لقد تسمَّرت أقدامهم، ودقَّت قلوبهم، وسال لعابهم، ما هذا؟! كلمةٌ واحدةٌ تدين لنا بها العرب ونملك بها العجم. إنَّ أهل قريش ما حَلَموا يومًا بوحدة العرب تحت قيادة واحدة، وما توقَّعوا يومًا أن يكون أحدهم مَلِكًا على العرب جميعًا، فضلًا عن أن تدفع لهم العجمُ الجزية! إنَّ هذا فوق التخيُّل وفوق الأحلام، لقد كان أقصى أحلام أحدهم أن يقف ذليلًا أمام كسرى أو قيصر، فقط لِيفتخر قائلًا: دخلتُ إيوان كسرى، أو وقفتُ أمام عرش قيصر، وفي قصَّة هرقل مع أبي سفيان كما سيأتي في أحداث المدينة خير دليلٍ على ذلك؛ فقد كان الزعيم القرشي العزيز الشريف، يقف ذليلًا أمام قيصر يستجوبه بدقَّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أوقف قيصر خلفه مجموعةً أخرى من رجال قريش ليكونوا شهداء عليه إذا كذب، وفي هذا إهانةٌ كبيرةٌ لزعيم بني أميَّة؛ ولكن العرب كانوا يقولون: أين نحن من هؤلاء؟
أمَّا الآن فهم يستمعون من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمرٍ عجيب؛ أنَّهم سيقولون كلمةً واحدةً تدين لهم العرب ويملكون بها العجم؛ الفرس والروم وغيرهم، وهم ما جرَّبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبًا من قبل، فماذا يفعلون؟
لم يتردَّد أبو جهل والمشركون كثيرًا، وتشوَّقوا إلى معرفة هذه الكلمة فقالوا بلهفة: كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ؟ نَعَمْ وَأَبِيكَ عَشْرًا، فَمَا هِيَ؟ وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: وَأَيُّ كَلِمَةٍ هِيَ يَابْنَ أَخِي؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثبات: تقولون: لا إِلَهَ إِلا اللهُ. وتخلعون ما تعبدون من دونه.
فصفَّقُوا بأيديهم، ثمَّ قالوا: أتُريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلهًا واحدًا؟ إنَّ أمرك لعجب.
ثمَّ إنَّ بعضهم قال لبعض: إنَّه والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئًا ممَّا تُريدون، فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه، ثمَّ تَفَرَّقوا.
مساكين هؤلاء الكفار! ومساكين هؤلاء الذين عاشوا يُقاتلون من أجل قضية خاسرة، ومساكين أولئك الذين أُغْلِقت عقولهم وقلوبهم فلم تَذُقْ طعم الإيمان، إنهم يتعبون ويسهرون ويكيدون ويُدَبِّرون ويحزنون ويتألَّمُون، ثمَّ ماذا تكون النتيجة لهذا التعب والسهر والكدِّ والعرق؟
قال تعالى مُصَوِّرًا طبيعة معيشتهم، وهي عكس ما يتصوَّره كثير من الناس: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ [طه: 124].
إنَّ حياة هؤلاء التعساء ما هي إلَّا تصوير لهذه المعيشة الضنك! إنَّهم دومًا في اجتماعات ومؤتمرات ولقاءات وترتيبات وتدابير، وهم دومًا في حذر وترقُّب وهلع، لا تطمئنُّ قلوبهم، ولا تهدأ جوارحهم، ولا يستطيعون نومًا هادئًا، ولو نام أحدهم بات حوله مَنْ يحرسه، ثُمَّ هو مع ذلك غير مطمئنٍّ ولا آمن! ما أبلغ الوصف الذي وصفه ربُّ العالمين لهذه الطائفة من البشر، التي اتخذت غير الإسلام منهجًا لحياتها: ﴿فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾.
وفوق ذلك فإنهم يُعانون يوم القيامة معاناةً أشدَّ وأقسى؛ قال تعالى: ﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى﴾ [طه: 124-127].
وهكذا رفض الكافرون كلمة: «لا إله إلا الله»، وأنزل الله عز وجل في حقهم صدر سورة (ص)؛ قال تعالى: ﴿ص وَالقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ * كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ * وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانْطَلَقَ المَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي المِلَّةِ الآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ﴾ [ص: 1-7].
ولا شكَّ أنَّ الصحابة كانوا يعيشون مع سورة (ص) بطريقة مختلفة؛ فهناك فارق ضخم بين الذي يقرأ القرآن لتحصيل الحسنات فقط، وبين الذي يقرؤه ليتخذه منهاجًا ودليلًا وإمامًا ومرشدًا، لا شكَّ في أن الصحابة قد أدركوا القيمة الحقيقية لهذه الكلمة، البسيطة في حروفها، العميقة في معانيها وآثارها؛ كلمة: لا إله إلا الله.
عن عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلاًّ، كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ الْبَصَرِ، ثمَّ يَقُولُ: أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ. فَيَقُولُ: أَفَلَكَ عُذْرٌ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ. فَيَقُولُ: بَلَى، إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً، فَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ. فَتَخْرُجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ. فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ؟ فَقَالَ: إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ. قَالَ: فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ، فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ، وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ، فَلَا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللهِ شَيْءٌ»[2].
والصحابة رضوان الله عليهم قالوا الكلمة بصدق ويقين، قالوا: لا إله إلا الله. وخلعوا من حياتهم كلَّ ما يُنافي هذه الكلمة، قالوها بألسنتهم وقلوبهم وعقولهم وجوارحهم، قالوها بالحروف وقالوها بالأفعال، فدانت لهم العرب ووحَّدوهم جميعًا تحت راية واحدة، ثمَّ تجاوزوا العرب إلى غيرهم، وسقطت عروش كسرى وقيصر وغيرهم من ملوك الأرض بجيش لا إله إلا الله، وفُتحت بقاع لا تُحصى ولا تُعَدُّ بلا إله إلا الله، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، بلا إله إلا الله، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم دفعت لهم العجمُ الجزية! وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما وعد به؛ قال تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 3، 4].
وما أُريد أن أَلْفِتُ النظر إليه هنا أنَّ هذا الوعد ليس خاصًّا بالصحابة فقط؛ إنَّما يحدث هذا الفتح والنصر والتمكين لكلِّ مَنْ قال: لا إله إلا الله. بصدق وعمل بها، وهذا إلى يوم الدين.
[1] البخاري: كتاب العلم، باب ليبلغ العلم الشاهد الغائب، (105)، عن أبي بكرة رضي الله عنه، ومسلم: كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، (1679).
[2] الترمذي: كتاب الإيمان، باب ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله (2639)، وقال: حديث حسن. وابن ماجه (4300)، وأحمد (6994)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده قوي رجاله ثقات. وابن حبان (225)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح. والحاكم (9)، وقال: هذا حديث صحيح لم يخرج في الصحيحين وهو صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي، وصححه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة (135).
التعليقات
إرسال تعليقك